تثير فكرة السماح بعودة اليهود إلى العراق، والتي يرددها بعض العراقيين، نقاشاً واسعاً في أوساط المواطنين، وجدلاً حاداً تشوبه المخاوف من تدبير صفقة سرية بين الإدارة الأمريكية ،ومجلس الحكم في العراق ، وقد حذر العديد من رجال الدين، في خطب الجمعة الماضية من الوقوع في حبائل المخططات الأمريكية الصهيونية لتوطين الكثير من رجال الموساد الإسرائيلي في العراق ـ والذين ينتشرون بكثرة ولاسيما في بغداد ومدن الشمال ـ بذريعة إعادة اليهود العراقيين المهجرين عام 1948م.
وكانت أنباء صحفية قد أشارت إلى أن عدداً من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي العراقي،يحاولون منذ عدة أسابيع تقرير ما إذا كان يجب السماح بعودة عشرات آلاف اليهود الذين فروا من العراق في الخمسينات والسنوات اللاحقة، وحتى اليوم يبدو الموقف رافضاً لمثل هذه العودة، وكان المجلس قد أقر، أوأخر العام الماضي، تشريعات تسمح لآلاف من العراقيين الذين فروا أو طردوا من البلاد باسترداد جنسيتهم، إلا إذا كانوا من اليهود، ولم تشر تلك الاقتراحات إلى اليهود، طبقاً لما ذكره أعضاء المجلس، لكنها احتوت على صياغة يمكن أن تحافظ على قرار الحكومة العراقية في الخمسينات بسحب الجنسية من عشرات الألوف من اليهود العراقيين .
وقال أعضاء مجلس الحكم العراقي أنهم ناقشوا موضوع اليهود، لأول مرة في ديسمبر الماضي، عندما بدؤوا في دراسة تشريع موسع يسمح لعشرات الآلاف من العراقيين الذين طردوا من البلاد بالعودة إليها، ومن بين هؤلاء آلاف من الشيعة والأكراد الذين طردهم صدام حسين .
بر يمر لم يوقع:
وذكر محمد بهاء الدين صلاح الدين (عضو المجلس) "شعوري هو أنه ما دامت المشكلة الفلسطينية قائمة، وما دامت هناك حالة حرب، وأن إسرائيل هي دولة حرب ، فلا يجب أن نسمح بعودة اليهود. وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يهودي عراقي، هل نسمح له بالعودة؟ غير أن المقترحات لم تتحول إلى قانون؛ لأن الحاكم الأمريكي المدني بول بر يمر لم يوقعه، وبالرغم من أن أعضاء المجلس، قالوا: إنهم بعثوا بالمقترحات إلى بريمر لإقرارها، فإن دان سنور (المتحدث باسم بر يمر) قال: إن الأخير لم يرها على الإطلاق، وأضاف المتحدث أن السفير بر يمر لم يدرسها ولم يطلع عليها .
غير أن بعض العراقيين يعتقدون أن الأمريكيين لعبوا دوراً في محاولة تسوية القضية اليهودية، فقد ذكر بعض أعضاء المجلس أنهم التقوا مع بر يمر بخصوص القانون المقترح، بينما ذكر محام ساهم في صياغة التشريعات أنه ناقش الموضوع مع أحد أعضاء الإدارة المدنية الأمريكية.
على صعيد آخر ذكر متحدث باسم اليهود العراقيين في الولايات المتحدة لصحيفة نيويورك تايمز : " أنه سافر إلى بغداد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي لمناقشة موضوع عودة اليهود مع المسؤولين الأمريكيين.
يهود العراق:
وفيما انكمش عدد اليهود العراقيين إلى حد الانقراض، فإنهم كانوا يمثلون واحداً من أقدم المجتمعات العراقية، ويمكن للعديد منهم متابعة جذورهم إلى القرن السادس قبل الميلاد، وقد بدأت المتاعب بالنسبة ليهود العراق في الثلاثينات مع نهاية الانتداب البريطاني. ومع قيام إسرائيل، كانت الحكومة العراقية آنذاك لا تشجع اليهود على الهجرة غير أنها سمحت لهم في النهاية بالهجرة، وفي عام 1950م أصدرت قانوناً ينص على أن أي يهودي يغادر البلاد لإسرائيل يتخلى عن جنسيته، وبحلول أوائل الخمسينات، هرب معظم اليهود فيما عدا عدة آلاف. غادر العديد من الذين بقوا العراق بعد عام 1969م عندما أعدمت السلطات العراقية 12 منهم من بينهم 7 يهود في ساحة التحرير في بغداد بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وقد انخفض عدد أفراد الجالية اليهودية في بغداد إلى 13 شخصاً. كما تم تدمير الحي اليهودي على ضفاف نهر دجلة .
وتقارن الصحيفة بين وضع اليهود في العراق قبل إعلان قيام دولة إسرائيل، حيث كان عددهم يقترب من 120 ألف شخص، وعددهم الحالي الذي يبلغ 13 شخصاً فقط، وتقول: إن القضية تثير كثيراً من الخلفيات التاريخية اليهودية بالعراق، وخاصة ما يعرف بالشتات والسبي البابلي.
علاقات مع إسرائيل:
تقول الباحثة اليهودية "حنان اتلاي "، وهي من يهود العراق المهجرين في مقالتها المنشورة في صحيفة " يدعوت احرانوت" الآن وفي هذه الأيام وبعد أن تخلصنا من الطاغية صدام وأعوانه، ومع أنه مازال أمامنا أشواطاً طويلة من أجل وضع أسس المجتمع الديمقراطي في العراق الذي هو حلم كل عراقي بدأنا نسمع ونقرأ عن رغبة يهود العراق في العودة إلى العراق، وكانت ردود الفعل لدى العراقيين بأنه "ولم لا "، وأي شيء أكثر طبيعية من هذا. ولكني أود التريث قبل أن أدعوهم للعودة، وتضيف :
أنا أود أن تكون الظروف أفضل، وهناك ضمانات قوية بأن لا تتكرر الأحداث المؤسفة _لا سمح الله_ قبل أن يأتوا أرى من الضروري أن تكون هناك علاقات دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل مهما اختلف الأشخاص في رأيهم بشان العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، فهذه الاختلافات ستأخذ مجراها السلمي في ظل الحياة الديمقراطية وليس استمرارا للأساليب المتبعة في الدول العربية التي لا تغني، وهي عبارة عن كيل الشتائم لإسرائيل طيلة اليوم، كيف سيشعر اليهودي حينها يكفي أن يضع المرء نفسه مكانهم بعض الوقت ليتصور، ولكنني شخصياً أرحب بفكرة عودة يهودنا فبدونهم لا تكتمل موزائيكية المجتمع العراقي وليساهموا بكفاءاتهم في بناء عراق جديد مشرق فيه سلام.
وعد كولن باول:
مثلما وعد بلفور اليهود بالسيطرة على الأراضي الفلسطينية ، فإن كولن باول (وزير الخارجية الأمريكي) وعد هو الآخر وفداً يمثل المجلس اليهودي العالمي باتخاذ كل الإجراءات المناسبة للاستجابة لقلق المجلس اليهودي حول ما يرونه استبعاد اليهود من القانون الأساسي العراقي، الذي وقع عليه أعضاء مجلس الحكم يوم الاثنين الماضي، ونقلت جريدة القدس العربي اللندنية عن صحيفة جويش كرونيكل اليهودية الصادرة في لندن قولها: إن وفداً من المجلس سافر لواشنطن، للقاء باول، حيث قدم له عدداً من التحفظات على القانون الأساسي الذي يميز ضد اليهود ويمنعهم من الحصول على الجنسية العراقية مرة ثانية، أو المطالبة بتعويضات عن الممتلكات السابقة، وقال باول للوفد: إنه واعٍ للتحفظات والمطالب اليهودية، ووعد بأن أمريكا لن تتسامح مع أي تمييز ضد اليهود، ووعد أيضاً أن يقوم المستشارون القانونيون التابعون لوزارة الخارجية بالنظر في القانون العراقي، وتقول الصحيفة: إن مسؤولاً في مجلس الحكم الانتقالي المعين، أخبرها أن الموضوع اليهودي جدلي، فالمجلس _حسب ما يقول_ حاول تمرير بند التعويضات عن الممتلكات الذي يستبعد اليهود، مع أن البند لم يتحدث مباشرة عنهم، ولكنه قال: إن التعويضات وإعادة الجنسية لن تشمل أبناء الذين غادروا العراق بناء على قوانين عام 1950م و 1951م، حيث تم تجميد الأموال العائدة لليهود الذين غادروا العراق في هذه المدة، ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن قاض كردي دارا نور الدين قوله: إن معظم أعضاء مجلس الحكم دعموا قانوناً يمنع اليهود من العودة للعراق، وقال القاضي: إن موضوع إسرائيل حساس، ولهذا فكل أعضاء مجلس الحكم باستثناء اثنين أو ثلاثة أرادوا إبقاءهم بعيداً عن العراق.
قلق من ردة الفعل:
وتقول الصحيفة: إن المصدر الذي أخبرها، قال: إن مجلس الحكم قلق من ردة فعل الدول العربية إن سمح لليهود بالعودة للعراق. وبحسب المصدر، فالحاكم الأمريكي على العراق بول بر يمر، قال: إن وجود بند يتحدث بصراحة عن منع اليهود من العودة للعراق سيكلفه منصبه، وبحسب ستانلي أورمان، الذي يدير منظمة يهودية في أمريكا العدالة من أجل يهود الدول العربية ، فالقانون العراقي الجديد، كما هو الآن يميز ضد اليهود. وقال أورمان: إن الإشارة إلى النظام القمعي وضحاياه تعني نظام صدام، والكل يعرف أن اليهود غادروا العراق قبل وصول صدام للسلطة. وقال: إن القانون الأساسي وإن كان علامة مهمة، إلا أنه يجب أن يعامل كل ضحايا النظام السابق والأنظمة السابقة في العراق على قدم المساواة. وقال: إن المنظمة ستكتب إلى مجلس الحكم الانتقالي، وستدعو الإدارة الأمريكية من أجل التأكد من رد الحقوق لجميع المواطنين. وقال: إن بعض قادة المجلس اليهودي وإن عبروا عن رضاهم من تعليقات بريمر، إلا أنهم لا يعرفون إن كانت هذه ضمانات توصل إلى ما يريدونه، وقال طبيب يهودي من أصل عراقي: إنه شعر بخيبة أمل عندما قرأ القانون الأساسي.
طبخة على نار هادئة:
وهكذا يؤكد الكثير من المراقبين السياسيين في العراق أن ثمة طبخة يتم إعدادها بمهارة، وعلى نار هادئة ، من خلال التنسيق المتقدم بين أجهزة المخابرات المركزية الأمريكية، وجهاز الموساد الإسرائيلي ، وبالتعاون مع عدد من أعضاء مجلس الحكم، لتمرير بعض القوانين التي تتيح لليهود الذين كانوا يعيشون في العراق من العودة إليه، والسماح لهم بشراء الأراضي والمنازل في العراق وربما تعويضهم عما فقدوه خلال هجرتهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة ،بينما يجري ذلك دون معرفة المواطن العراقي الذي ما يزال مشغولاً بالبحث عن لقمة العيش ، أو التخبط في دوامة الفوضى والاقتتال العرقي والطائفي ،الذي يهدد اليوم بحرب أهلية يعمل المحتلون الأمريكيون على تشجيعها بصورة غير مباشرة.